أعتقد أن قِطاعَ غزةَ سيظلُّ عبر التاريخ مصدرَ إلهامٍ للتصدي ورمزاً من رموز التحدي، التي سيتوقف أمامَها البشرُ كثيراً حين يؤرِّخُون لهذه المرحلة الدقيقة من عمر الوطن العربي.
تعارف البشر منذ آلاف السنين على ما يسمى بعجائب الدنيا السبعة، وهي أماكنُ بلغت القمةَ في الإبداع الإنساني عبر التاريخ، وبعضها لايزال باقيا كشاهدٍ حيٍّ على عبقرية وسمو العقل البشري الذي خلقه الله فأبدعه وصوره.
ولكنّ الناظرَ إلى أرضِ غزةَ المباركة بعين البصيرة والبصر سرعان ما يكتشف أنها حققت المدهش و العجيب الذي سيظل التاريخ حاضرا ومستقبلا يتوقف أمامه مبهوراً بروعة الإنجاز، وعبقرية الفعل في عجائبَ سبعةٍ تفرَّدَ بها قطاعُ غزة.
ألا وهي :
(1) العجيبة الأولى :
ترابط الشعب والقيادة، ربما كانت حكومة غزة هي الحكومة الوحيدة في التاريخ الإنساني التي يعاني شعبُها الجوعَ والفقرَ الشديدين، والأزماتِ الخانقةَ التي لا تتحملها طاقة البشر، ورغم هذا لم يَثُرْ الشعبُ عليها ولم يُسْقِطْها بل لايزال يحملها على الأعناق! رغم أن الجميع يحاول جعلها السببَ الرئيسي لما يعانى منه أهل غزة. إنها فعلاً عجيبةٌ من عجائب الزمان أن تستمر حكومةٌ تحت هذه الضغوط الهائلة دون أن تسقط أو تسلم الراية، بل الشعب يحتضنها ويخفف عنها!.
وإذا سألتني ما سِرُّ هذا الصمود العجيب؟ قلت لك: إنها حكومةٌ مرتبطةٌ ارتباطا وثيقا بشعبها فليس الشعب هو وحده من يعانى كمعظم الأقطار الأخرى عند الأزمات بل هم في مقدمة من يدفع ضريبة الصمود من قوته و دمه و أبنائه ، ثانيا إن عمقهم الإستراتيجي الداعم لهم - كما يقول أهل السياسة – رأسي و ليس أفقي !! ، أي سماوي الوجهة رباني التوجه خاصة بعد أن تنكر لهم الأخ و الصديق و هذه هي الإجابة الوحيدة المقنعة لثبات هذه الحكومة المباركة
(2) العجيبة الثانية :
عزة النفس والتمسك بالنزاهة، من عجائب غزة هي أهلها المرابطين الذين يثبتون كل يوم بأن منابع العظمة لديهم لا تنضب بل هي دائمة التجدد، بل لعلي لا أكون مبالغا إذا قلت: إن أهل غزة الذي حاول البعض الصيدَ في الماء العكر وتصويرَ ما حدث على الحدود من هدم للسور الحدودي وتدفق لأهل غزة على رفح المصرية لكسر الحصار بأن ذلك منقصة وخطأ غير مقبول، أقولها بأعلى صوت بل إن ما حدث على الحدود أثبت بشكل قاطع أن أهل غزة شعبٌ يُعَدُّ من أرقى شعوب الأرض. نعم أأكد بأن ما حدث من أهل غزة على الحدود المصرية يثبت أنهم أرقى - هذه المرة- شعوب الأرض! و إذا سألت: لماذا ؟! أقول: تخيل معي شعباً محاصراً حصارا ظالما ومجحفا لا مثيل له في العالم، لا ماء، لا غذاء، لا دواء، لا كهرباء، لا يوجد أي شيء على الإطلاق من مقومات الحياة الأساسية، التي يحتاجها البشر؛ ليظلوا فقط أحياء، ولا أقول ليعيشوا حياتهم!
وعندما تكسر الحدود، ويتدفق مئات الآلاف على رفح المصرية في وقت واحد؛ للتزود بمقومات الحياة، رغم هذا كله، لم تسجلْ جريمةُ سرقةٍ واحدةٌ قام بها فلسطيني في رفح!. ولم تتعرض قافلةُ مساعداتٍ واحدةٌ للسلب و النهب! بل ضخَّ هذا الشعب الفقيرُ المحاصرُ ملايينَ الدولارات للاقتصاد المصري!. أنني أتحدى أن تذهب بسيارةٍ تحمل مساعداتٍ إنسانيةً لأي دولة عربية، تعانى الفقر وتقف بها في ميدان عام، وترى ما سيحدث لها، ستختفي المساعدات في لحظات، بل ربما اختفت السيارة والسائق أيضا !. أخبرني بربك: هل تعرف شعباً على وجه الأرض يصيبه كل هذا الظلم و البغي والعدوان، ويتصرف بكل هذا الرقي والتحضر وعزة النفس التي تناطح الجبال؟. نعم ، إن أهل غزة عجيبة من عجائب الزمان، التي نقف أمامها كالتلاميذ الصغار نستلهم من صمودهم و جهادهم الدروس و العبر ..
(3) العجيبة الثالثة :
ملحمة الصمود ، الحديث عن الصمود الفلسطيني على مدار التاريخ يثير في النفس مشاعر من الإجلال والإكبار، حتى يظن المرء في بعض الأحيان أنهم يتنفسون الصمود والإباء، كما نتنفس نحن الهواء. إن الواحد منا في حياته العادية كثيرا ما يُنَغِّصُ حياتَه و يصيبُه السخطُ إذا انقطع عنه الكهرباء أو الماء ساعاتٍ معدودةً، أو حدث ازدحام في الطريق، أو خلل في وسائل المواصلات ...
أما إذا فقدنا القريب أو الحبيب أو الصديق ربما نظل نبكيه شهورا طويلة. أما فلسطين فتصبح منغصات الحياة هي الأصل، هي روتين الحياة اليومي، الذي يحياه كلُّ رجلٍ وامرأةٍ وكلُّ طفلٍ و شيخٍ على الأرض المباركة، ليس هذا فحسب بل ضاعف حجمَ المعاناةِ عشراتِ الأضعافِ الحواجزُ الإسرائيلية التي لا تنتهي أبدا، والتفتيش الذاتي المستمر، والاعتقالات الهمجية اليومية، ونزيف الدماء المتصاعد يوما بعد يوم، مع حصار خانق وحانق يتجاوز حدود الإنسانية عبر تاريخها الطويل، كل هذا الضغوط الهائلة تمارس ومازال هذا الشعب الصابر يضرب النموذج والقدوة لأمة بكاملها في صمودٍ لا يعرف التنازل أو الانكسار، بل تنحني أمامه الرؤوس إكبارا وإجلالا.
(4) العجيبة الرابعة :
مصانع الرجال ، إنك تشعر وأنت تشاهد أبطال فلسطين أنك أمام نوعية متفردة من الرجال، هذا الطراز النبيل من الأبطال الواحد منهم بألف ممن سواه، قلما يجود بهم زمان أو مكان. إن ملامح الشموخ و نظرات العزة التي تلمع في عيون الواحد منهم وأنت تشاهدهم على شاشات التلفزة كافية لِأَنْ تطمئن على مستقبل المسيرة، بل تشعر أحيانا بالغيرة أنك لست واحدا منهم. والعجيب أنه رغم صغر أعمارهم إلا أنك تشعر أن من يتحدث له حكمة الشيوخ التي مزجت بحماس الشباب. إن أسماءً مثل "إسماعيل هنية" و "محمود الزهار" و "خالد مشعل" و "موسى أبو مرزوق" و "سعيد صيام رحمه الله" ومن الشباب: "أسامة حمدان" و "سامي أبو زهري" و "مشير المصري" وغيرهم كثيرٌ كثيرٌ من أبطال فلسطين القابضين على الجمر، هم وحدهم عجيبةٌ من عجائب الزمان. فسلام لهم ألف سلام.
(5) العجيبة الخامسة :
عبقرية البناء ، إن الناظر للبناء التنظيمي الفريد لحركة المقاومة الإسلامية حماس، والذي لا أدعى إحاطتي به ، ولكن يكفي ما نستشعره ونراه ونلمسه، يتمتع بكيان متماسك، رغم تلقيه الضربات القاتلة الواحدة تلو الأخرى، ولكنه راسخ كالجبال. ومن أسرار ذلك: أن حركة حماس يتغلغل تنظيمها العنكبوتي في كل شبر من أرض فلسطين، فليست هي مجرد حركة لحمل البندقية، بل ولحمل سماعة الطبيب، وقلم الكاتب، وكراسة التلميذ، وآلة الميكانيكي، وبزة الشرطي، وأبحاث الأستاذ الجامعي ...إلخ. إنه كيان تصطبغ به كل مجالات الحياة المختلفة في فلسطين من مدارس ومستشفيات ومراكز أمن، وجمعيات خيرية، و كافة أنشطة العمل الاجتماعي والخيري. إن المذهل في هذا الكيان مدى تماسكه وانضباطه رغم حجم الضغوط الهائلة التي يتعرض لها كل يوم، هذا فضلا عن الخسائر الفادحة في صفوف قادته بشكل مستمر. وكثيرا ما نقرأ أو نسمع عن حركات انفرط عقدها بموت قادتها، وتفرقت شيعاً وأحزاباً. أما عجيبتنا هذه فهي أنها كلما استشهد قائد خلفه ألف قائد، حتى يخال المرء أنه أمام حركة كلها قادة! فاللهم لا حسد!.
(6) العجيبة السادسة :
عبقرية الأداء ، من يتابع مواقف حركة حماس المختلفة عن كثب يستطيع أن يجزم أنها استطاعت بحِرَفِيَّةٍ بالغةٍ ـ تحسد عليها ـ أن تتعامل مع تناقضاتٍ عِدَّةٍ، وظَّفَتْها جميعاً لصالح مشروعها التحرري. فهي إخوانيةُ الجذور والتفكير والتنظيم، ورغم هذا استطاعتْ أن تتعامل مع النظام المصري الذي يكره الإخوان أكثر مما يكره إسرائيل، ونجحت في الحفاظ بمساحةٍ معقولةٍ من العلاقة بين الطرفين رغم مواقف النظام المصري التي لا تُشَرِّفُ أحدًا، والتي تصنف في خانة الضعف والانبطاح. وكذلك تعاملت الحركة مع النظام السوري، ولا أدل على حسن الأداء من وجود قادة الحركة الأساسيين في دمشق رغم و جودِ قانونٍ يقضي بإعدام كل من له صلة بالإخوان المسلمين. كذلك تعاملت حركة حماس مع جميع الفصائل الفلسطينية المختلفة معها في الفكر والحركة والسلوك. ولكن استطاعت حماس بحنكة بالغة أن تحتفظ دائما بأجندة مشتركة يلتف الجميع حولها. كذلك تعاملت بذكاء بالغ مع قوى الصراع المختلفة في المنطقة مع قدرتها على الاحتفاظ دائما بشعرة معاوية مع كافة الأطراف ..
(7) العجيبة السابعة :
المقاومة المتجددة، ( صواريخ القسام ، القنبلة البشرية ، قناة الأقصى ) هذه هي مدافع حماس الثلاثة كل واحد منها إعجاز متفرد، الصواريخ التي تصنع وتطور من وقت لآخر؛ لتثير الرعب الإسرائيلي، وتثير حفيظة حلفائه، رغم البساطة الشديدة في صنعها، ولكنها تستمد قوتها من رعاية السماء، وإرادة صانعها، والسلاح بضاربه لا بحده كما يقال. أصبح هذا الصاروخ المتواضع هو ميزانَ الرعبِ مع العدو الصهيوني. أما القنبلة البشرية التي تخترق كل الحواجز والاحتياطات الأمنية الشديدة؛ ليصل الاستشهادي إلى مبتغاه وينفجر في وجه إخوان القردة والخنازير، إن وصوله لهدفه معجزةٌ، وانفجارَه معجزةٌ، تنحني لها رؤوس الرجال إكباراً لها. أما قناة الأقصى هذا الوليد الذي شب كبيرا؛ لتتحول القناة في عدة شهور لا أقول سنين إلى قناة ذات مصداقية عالية رغم الضعف الشديد في إمكانياتها، ورغم الظروف الأمنية والفنية الصعبة التي تعمل خلالها، إلا أنها ـ بعون الله ـ استطاعت أن تلفت الأنظار بسرعة كبيرة، وتصبح في قائمة القنوات المفضلة لدى الشارع العربي، الذي يتلهف على إعلامٍ مقاومٍ ونظيفٍ خاصةً مع الكم الهائل من القنوات التي تملأ سماء العالم العربي التي تهدم و لا تبني .
أعلم أن حماس وغزة وكل فلسطين: الأرض والإنسان والتاريخ لا تنضب عجائبهم؛ لأنهم صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعه، إنهم ينيرون لنا الدرب، ويفسحون لنا الطريق، ويخطبون فينا خطباً بليغة، بالفعل لا بالقول، بأن طريق النصر معبّدٌ بدموع الأسحار، وقطراتِ الدماء في رابعة النهار ' فهل من متعظ ؟.
دعواتكم لنا يا احباب
الثلاثاء فبراير 17, 2009 9:52 am
